ترامب وتهجير غزة- تراجع أم تغير استراتيجية؟

المؤلف: د. مهند مصطفى09.13.2025
ترامب وتهجير غزة- تراجع أم تغير استراتيجية؟

في لقاء جمعه برئيس وزراء أيرلندا في أروقة البيت الأبيض، أورد الرئيس الأميركي دونالد ترامب تصريحًا مفاده أنه لن يقوم بترحيل الفلسطينيين قسرًا من قطاع غزة، وذلك لدى إجابته على سؤال طرحته إحدى الصحفيات بهذا الشأن. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمثل هذا التصريح انعطافًا أو تراجعًا من جانب ترامب عن المخطط الذي كان يتبناه سابقًا والقائم على تهجير الفلسطينيين من ديارهم في قطاع غزة؟

إن تصريح ترامب الأخير هذا يحتمل تفسيرين رئيسيين:

  • التفسير الأول: أن الرئيس ترامب لا يرى في خطته المقترحة "طردًا" أو تهجيرًا قسريًا للفلسطينيين، بل يعتبرها استجابة وتحقيقًا لأمانيهم ورغباتهم. وبناءً على هذا التصور، ربما لم يستوعب المغزى الحقيقي من السؤال الذي وُجِّه إليه بشأن الطرد، بل واستغرب طرحه من الأساس، وذلك انطلاقًا من قناعته الراسخة بأن خطته تحظى بدعم وتأييد واسع النطاق من قبل الفلسطينيين المقيمين في قطاع غزة.
  • التفسير الثاني: وهو أن ترامب قد عدل بالفعل عن مشروعه الذي كان يرمي إلى تهجير قاطني غزة، وذلك بعد أن أدرك جسامة التحديات والصعوبات التي تعترض سبيل تنفيذ مثل هذا المقترح، وبعد أن لمس الرفض القاطع من جانب الدول العربية، بالإضافة إلى رغبته في تحقيق أهداف أسمى وأبعد من مجرد السيطرة على قطاع غزة. كما أنه يخشى من أن يؤدي تنفيذ مشروع التهجير إلى إثارة مشكلات جمة تفوق في حجمها المكاسب التي قد يجنيها من إحكام قبضته على القطاع.

والحق يقال، إن هذا الجدل برمته لا جدوى منه، ومن المجازفة بمكان محاولة تحليل توجهات ترامب بشأن فكرة التهجير بناءً على مجرد جملة عابرة أطلقها خلال لقاء عابر، على غرار الكثير من الجمل والتصريحات الأخرى التي أدلى بها ثم سرعان ما تراجع عنها، أو التي حملت في طياتها تهديدات وتبعات تتجاوز الواقع الفعلي. وغزة نفسها خير شاهد على مواقف ترامب المتضاربة، كما حدث في مسألة الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين دفعة واحدة في غضون مهلة زمنية محددة، وهو الأمر الذي لم يتحقق على أرض الواقع.

في المقابل، يمكننا أن نغامر بالقول إن فهم السياق العام الذي وردت فيه جملة ترامب، قد يوحي (السياق وليس الجملة نفسها) بأن فكرة التهجير لم تعد تحتل مكانة بارزة في أجندات الإدارة الأميركية. ومن هذا المنطلق، يمكننا أن نستحضر تصريحًا آخر لترامب يتعلق بضم الضفة الغربية.

ففي اللقاء المشترك الذي جمعه مع رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، بنيامين نتنياهو، والذي استعرض خلاله خطته لتهجير سكان قطاع غزة، تعهد ترامب بدراسة مشروع ضم الضفة الغربية في غضون أربعة أسابيع ونشر موقفه بشأن هذه المسألة. ولكن، وكما هو متوقع، لم يحدث شيء على الإطلاق، ولم يصدر عن البيت الأبيض أي بيان أو موقف بشأن فكرة ضم الضفة الغربية حتى بعد مرور الأسابيع الأربعة.

لقد اعتقد ترامب أن فكرة التهجير تمثل "تفكيرًا إبداعيًا خارج الصندوق"، وهي في حقيقة الأمر أوصاف أطلقها الإسرائيليون أنفسهم على مقترح ترامب. بيد أنه اصطدم بموقف عربي موحد وقوي ضد المقترح، بالإضافة إلى مبادرة عربية جديدة تهدف إلى إعادة إعمار غزة وانتشالها من المأزق السياسي العام، والذي يتمثل في استمرار حرمان الفلسطينيين من حقوقهم الوطنية والسياسية المشروعة.

وقد اتجهت المبادرة العربية نحو مسار سياسي يحاكي أسلوب ترامب نفسه، حيث لم تقتصر على طرح خطة لإعادة إعمار غزة فحسب، بل قدمت أيضًا أفقًا سياسيًا واضحًا ومجدولًا "للسلام"، وهي الكلمة التي دائمًا ما يرددها ترامب على مسامعنا.

وإذا كان ترامب يعتمد أسلوب رفع سقف مطالبه إلى أقصى حد ممكن ليحصل في نهاية المطاف على ما يريد، فإن المبادرة العربية قد جاءت بسقف سياسي يتجاوز مجرد إعادة الإعمار ومنع التهجير، ويهدف إلى استعادة غزة من براثن فكرة التهجير التي أطلقها ترامب، والتي تجذرت بقوة في المخيال الإسرائيلي، لدرجة أنها تحولت إلى إدارة كاملة في وزارة الدفاع الإسرائيلية تتولى مهمة تطبيق هذا المقترح.

لقد لعب الموقف العربي والدولي الصلب دورًا حاسمًا في كبح جماح هذه الخطة لدى ترامب. وبغض النظر عن تصريحه الأخير، فإن الأهم من ذلك هو عدم تكراره لهذا المقترح مرة أخرى. فصمته عن هذا المقترح، لا مجرد حديثه عنه، هو الأمر الذي يحمل دلالات بالغة الأهمية، حتى لو اقتصر الحديث على مجرد جملة واحدة. فالامتناع عن الحديث عن الفكرة يعكس تراجعًا عنها أو تشكيكًا من جانب الإدارة الأميركية في جدواها وفاعليتها.

وإذا ما قارنا ذلك بإيقاع تكرار ترامب لخططه الأخرى، فسنجد أن فكرة تهجير غزة لم تعد تحظى بأي اهتمام يذكر لديه منذ فترة طويلة، وذلك بالمقارنة مع صفقته المتعلقة بالمعادن مع أوكرانيا، أو نيته ضم جزيرة غرينلاند، أو فرضه رسومًا جمركية على كندا، وغيرها من الخطط التي ما يزال ترامب يكررها ويتفاخر بها في كل مناسبة، على عكس مقترحه بشأن تهجير سكان قطاع غزة.

إن الإدارة الأميركية تدرك تمام الإدراك أن مباحثات وقف إطلاق النار في غزة ستسفر في نهاية المطاف عن واقع مغاير تمامًا لفكرة التهجير. والواقع يؤكد ذلك، فالمباحثات التي أجراها المبعوث الأميركي لشؤون الرهائن الأميركيين، آدم بولر، مع حركة حماس، قد تناولت إمكانية التوصل إلى هدنة لمدة خمس سنوات على الأقل في قطاع غزة، أي هدنة من شأنها أن تستمر إلى ما بعد انتهاء ولاية ترامب ونتنياهو.

وقد أكد بولر أن مباحثاته قد جرت بتأييد ودعم شخصي من ترامب، وهو دليل قاطع آخر على أن فكرة التهجير لا تمثل أولوية قصوى لدى إدارة ترامب أو لديه شخصيًا. وبغض النظر عن النتائج التي ستسفر عنها هذه المباحثات، سواء بالنجاح أو بالفشل، فإن ما يهمنا منها هو هذا المؤشر الذي يعكس تراجع الاهتمام بفكرة التهجير، ويؤكد أن هذا المقترح لم يعد واقعيًا أو عمليًا في نظر الإدارة الأميركية.

بالإضافة إلى ذلك، يدرك ترامب أن تنفيذ مخطط التهجير يتعارض بشكل صارخ مع طموحه الأسمى والأكبر في تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط، وذلك وفقًا لفهمه الخاص وتعريفه لمعنى السلام. فتنفيذ هذا المخطط من شأنه أن ينسف كافة مخططاته الرامية إلى إعادة إحياء مشروع التطبيع في المنطقة وتحقيق الاستقرار ومنع اندلاع الحروب.

فالتهجير يهدد الاستقرار الإقليمي برمته، فضلاً عن أنه سيعيد الصراع مع إسرائيل إلى نقطة البداية في عام 1948، عندما قامت إسرائيل بتهجير الفلسطينيين من أرضهم ووطنهم. فالتهجير لن يساهم في حل الصراع العربي الإسرائيلي، بل سيعيده إلى المربع الأول، بعد أن اعتقد ترامب، ومعه إسرائيل، أن هذا الصراع قد ولى وانتهى إلى غير رجعة. لذلك، ثمة تناقض جوهري بين الاستقرار والتهجير، وبين التطبيع والتهجير.

وعليه، هناك مؤشرات ودلائل أخرى أكثر أهمية من مجرد جملة عابرة أطلقها ترامب، تشي بتراجع فكرة التهجير في تفكير الرجل؛ فالصمت المتكرر عن هذه الفكرة هو مؤشر بحد ذاته، والممارسة الفعلية للإدارة الأميركية على أرض الواقع هي مؤشر آخر على تراجع هذه الفكرة، بل وربما إلغائها بشكل كامل.

ومع ذلك، لا ينبغي لنا أن نقلل من شأن اللوبي الصهيوني المتغلغل في أروقة الإدارة الأميركية، والذي يضم في صفوفه شخصيات بارزة مثل وزير الخارجية ماركو روبيو، ومستشار الأمن القومي مايكل والتز، وغيرهم ممن قد يدفعون باتجاه إبقاء هذا المقترح حاضرًا في ذهن ترامب. فضلاً عن انتقال هذه الفكرة بقوة إلى الجانب الإسرائيلي الذي يتحين الفرصة المناسبة لتنفيذها، أو على الأقل يستعد لها ويتعامل معها بمنتهى الجدية.

إلا أن تراجع ترامب عن مقترحه هذا سيؤثر بشكل كبير على الطرف الإسرائيلي. والحقيقة أن أصواتًا داخل إسرائيل بدأت تتعالى بالتحذير من مغبة تبني هذا المقترح، وذلك إما لاعتبارات أخلاقية وإنسانية، أو لأسباب سياسية تتعلق بكونه خطة غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع. فالحديث عن مثل هذه الخطة من شأنه أن يلحق أضرارًا جسيمة بإسرائيل على المستويين الإقليمي والدولي، فضلاً عن تهديده لحياة وسلامة الأسرى والرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة